النخب في "السعودية" ثلاثية التدجين والتغييب والتهجير
إن الحديث عن النخبة السياسية كمفهوم يحيلنا إلى الاهتمام الكبير الذي حظي به هذا الموضوع من قبل الفلاسفة والمفكرين. فمن المعروف أن وجود السلطة كممارسة سياسية داخل الدولة والمجتمعات والنظم السياسية يؤسس لوجود مجموعة من الأنساق والمؤسسات القائمة على أساس العلاقة السلطوية فيما بينها مما يعزز على نحو جلي وجود الحاكم والمحكوم بين مختلف المؤسسات الاجتماعية بمفهومها الشامل داخل وخارج المنظومة السياسية متناغمة بذلك مع التقسيم الطبقي داخل المجتمع .
بطبيعة الحال، جرت محاولات عديدة لتعريف النخبة السياسية من قبل مختصين، الأمر الذي يجعلنا أمام مروحة من التعريفات التي وإن اختلفت في منطلقاتها، لا بدّ وأن تتقاطع في عدد من النقاط أولها القوة والتأثير، كما المشاركة في صياغة تاريخ جماعة معينة، عبر وسائل وسبل عديدة (اتخاذ قرارات، اقتراح أفكار، إبداء مشاعر..)
ولذلك؛ فمن الطبيعي أن تتوافر لكل مجتمع من المجتمعات، بغض النظر عن درجة نمائه وتطوره، نخب سياسية تحظى بأهمية كبرى على قيادة التغيير والإصلاح.
ويُعد انفتاح النخب وقيامها على أساس الكفاءة والمسؤولية أحد المؤشرات الرئيسة لفعالية هذه الأخيرة، كما أن تجديدها أمر هام وضروري لكونه يسمح بتعزيزها بكفاءات جديدة كل حين، ويمنحها نوعا من الحركية.
إن تحقق هذه الشروط التي تمنح النجاعة والفعالية لهذه النخب، تظل رهينة في جزء هام منها بطبيعة الفضاء السياسي الذي تشتغل فيه، فكلما كان هذا الفضاء ديموقراطيا ومنفتحا، وبرزت حركية وحيوية هذا التجدد والعطاء باستمرار وتمكنت من أداء مهامها ووظائفها المفترضة في جو سليم يسمح بمعانقة آلام وآمال الجماهير وبلورة تصورات وقرارات تنسجم وتطلعاتهم وانتظاراتهم، وكلما كان النظام السياسي مغلقا وشموليا وسادت الممارسات الاستبدادية وضعف أداؤها وانحرف مسارها.
يعتبر د. خالد الرشيد في مقاربته للتحديات التي تكتنف النخب السياسية في أي بلد والتي تتمثل في قدرتها على تجديد نفسها، وفقا للنظرة التقليدية، حيث تتمحور قدرتها على تجديد نفسها، باستيعاب النخب الناشئة من خارج محيطها، والطموحات الشعبية التي قد تفرز ثورات متتالية أو عنفاً يطيح بالنخب ويأتي بغيرها.
وعند التطرق إلى النظام السعودي، بوصفه نظاما ديكتاتورياً، من الصعب تناول مفهوم النخبة من بوابة الفاعلين في المجتمع والمؤثرين على مجرى الإصلاح، لأننا أمام نظام لا يعترف بأي مفاهيم قد توحي بالمشاركة.
دأب محمد بن سلمان، منذ وصوله إلى سدة الحكم، إلى تقليص المساحة المسيطر عليها من قبل الوهابية والتي كانت تستأثر بمجال واسع من أشكال الحياة الاجتماعية والثقافية على حد سواء، كما كانت تشكلّ غطاء لمشروعية آل سعود المزمعة.
وفي تناوله للأمر يشير الرشيد إلى أن (النخبة) هنا، الطبقة أو المجموعة من الأفراد الذين ينظرون الى أنفسهم وكأنهم مختارون من قبل الجمهور أو بالطبيعة لكي يقودوا المجتمع ويسيطروا على الحكم. أي اننا هنا نقصد بكلمة (النخبة) الطبقة أو الجماعة أو الأفراد الحاكمون الذين يستشعرون بأنهم أحق بإدارة دفة الدولة سواء كانوا منتخبين أو لأن الأقدار ساقتهم لأن يكونوا على رأس الحكم.
وفي هذا المضمار لا بدّ من الإشارة إلى سياسة محمد بن سلمان الهادفة إلى زيادة جرعات القمع الممارسة بحق المعارضين السياسيين وعدم التراجع عن سياسة الإعدام بحق معتقلي الرأي، بل والتصدي لأي محاولة طرح إصلاحي أو نقدي يوجه من قبل أي وجه أكاديمي أو ديني لم يشكل يوما خطرا على النظام، كالعديد من معتقلي الرأي القابعين في السجون وممن لقوا حتفهم أيضا داخلها بفعل إهمال النظام المتعمّد.
إن أمثال محمد بن سلمان، وجوقة آل سعود عموماً، لا يتشاركون مفاصل الحكم مع نخبة فكرية أو ثقافية ولا أصحاب شهادات وضمائر حيّة، بل العملية تقتضي إن اضطر الأمر إلى بعض بائعي الذمم، ليضمن ولاءهم الأعمى.
تبنى آل سعود تاريخيا تدجين الكوادر والنخب الفكرية في المجتمع، حيث لم تتوسع لتكون (وطنية) تشمل مكونات المجتمع ككل، فعمدت إلى اقصاء النخب المحلية في الأحساء والقطيف والحجاز وقمعها ومحاصرتها كما منع مساهماتها ودعواتها الرافضة للاحتلال السعودي والسيطرة على المقدرات. وعند هذا الحدّ يضيف الدكتور خالد في طرحه بالقول " لننظر الى نوع النخبة الحاكمة اليوم في المملكة على مستويات صناعة القرار العلوي والأدنى. سنجد أنها في معظمها (نجدية) (وهابية) لا مبرر ولا منطق يعطيها الحق في تقرير مصير شعب متنوّع الثقافة والتاريخ والمصالح. بدل أن تكون هناك عشيرة حاكمة في كل منطقة أو دولة أو إمارة مستقلة قبل (التوحيد) كالعائلة الشريفية في الحجاز، والإدريسية وغيرها في الجنوب، والشمرية في حائل، جاءت عشيرة (خارجية) لتنسف أولئك وتحتل مقعدهم جميعاً، وتلحق تلك الإمارات والدول عبر مسمّى إمارات يسيطر عليها الأمراء أبناء الملك المؤسس. لننظر الى مجلس الوزراء من يسيطر عليه؟ وكذلك مجلس الشورى، والقيادات الدينية؟ ما هي انتماءات من يسيطر على المناطق؟ من يسيطر على الجيش من قمته الى قاعدته؟ وعلى قيادات المؤسسة الأمنية من مباحث واستخبارات؟ من يتحكم بالإعلام الرسمي وغيره؟ من يتحكم بالمال والإقتصاد وينتفع بهما؟.. كل المؤشرات تدفعنا الى القول بأن النخبة الحاكمة (غارقة) حتى النخاع في مناطقيتها ومذهبيتها".
لقد ساهم اختطاف شبه الجزيرة العربية في مضاعفة مستويات هجرة النخب بما يمكن وصفه بـ" التهجير"، والأمر مرده الواقع السوداوي في البلاد واستحالة ضمان أمنهم الشخصي وعائلاتهم . إن الروح التآمرية لدى النظام السعودي فرّغت البلاد من نخبها الحقيقية القادرة على بناء وطن يحقيقي يحفظ خصوصية كل المكونات المشكلة ويقدم نموذجا قابلا للعيش والتطور والتمثيل، ليخلق الواقع المفروض داخليا ضرورة الاستمرار في النضال الشعبي من الخارج، لمن استطاع إليه سبيلا.
ارسال التعليق