محرقة شباب تعز دفاعاً عن حدود السعودية
جنّدت السعودية ما بين 13 و15 ألف يمني كمرتزقة بدلاً من جنودها لحماية حدودها الجنوبية مع محافظة صعدة، معقل الحوثيين، وتولى سماسرة يمنيون التجنيد الذي تركّز بمحافظة صعدة. التفاصيل بهذا التحقيق.
في أواخر العام 2016، استعانت المملكة السعودية بمقاتلين يمنيين بهدف تحرير وتأمين المناطق المتاخمة لحدودها الجنوبية مع اليمن، في إطار عملية عسكرية موسعة أطلق عليها معركة تحرير محافظة صعدة، التي تعتبر محضن جماعة الحوثي ومقر نشأتها ومنطلق انتشارها، وفيها يقع منفذ “البقع” الحدودي مع منطقة نجران في السعودية.
تحت ضغط الحاجة قرر أسامة، الشاب العاطل عن العمل- كما فعل آلاف مثله -، انتهاز ما اعتبرها “فرصة ثمينة” لجني المال، مغامراً بحياته لمساعدة أسرته الفقيرة، والآن، بعد وفاته أغلق هذا المصدر إلى الأبد.
وهؤلاء الذين يذهبون للقتال على الحدود السعودية على هذا النحو، ليسوا سوى مجندين “وهميين” أو على الأرجح “مقاتلين مؤقتين”، تنتهي مهمتهم بإحدى ثلاث طرق: إما الموت، وإما التخلي والعودة (الفرار)، وإما انتهاء المعركة في أي وقت. وفي كل الحالات، فهم لا يتمتعون بأي حقوق أخرى غير تلك التي تُمنح لهم أثناء القتال، إذ يشبههم البعض بحال “المرتزقة”.
ويتراوح عدد اليمنيين الذين يقاتلون على الحدود السعودية ما بين 13 و15 ألف مقاتل من مختلف المحافظات اليمنية، طبقاً لترجيحات مصدرين خاصين مختلفين، أحدهما يمني يتولى عملاً إدارياً في منطقة نجران، مرتبط بالجبهات الحدودية.
ولم يعلق مصدر عسكري بوزارة دفاع حكومة هادي نفياً أو تأكيداً للعدد، لكنه رفض إطلاق وصف “المرتزقة” على المقاتلين في جبهة البقع باعتبارهم من أبناء اليمن ولم يأتوا من الخارج لقتال أبناء الدولة، وفق تعبيره.
يضيف المصدر، أنه “حتى وإن لم يكن هؤلاء جنوداً رسميين في الجيش اليمني، إلا أنهم يندرجون في إطار المقاومة الشعبية، ويقاتلون لتحرير أراضيهم من الحوثيين بدعم من الأشقاء في السعودية التي تقود التحالف العربي في اليمن”.
في البداية، أوكلت تلك الجبهة الحدودية لقيادات ومقاتلين سلفيين ينتمون إلى المحافظات اليمنية الجنوبية يتبعون الحكومة الشرعية ويحظون بدعم من السعودية. وكلف الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي العميد هاشم السيد - وهو قيادي سلفي معروف- “بقيادة القوة باتجاه البقع كتاف بمحافظة صعدة”. وفقاً لنص المذكرة المرفوعة من الرئيس اليمني إلى التحالف العربي في 5 أكتوبر 2016. انتُدبَتْ لهذه المهمة، قوات تابعة للمقاومة الشعبية الجنوبية بقيادة السلفييْن مهران القباطي، وبسام المحضار. وهي ألوية قتالية تشكلت بداية باسم المقاومة الشعبية في عدن إبان مشاركتها في قتال جماعة الحوثي منتصف العام 2015. وقيل إنها تحولت لاحقاً بقرارات جمهورية إلى ألوية تابعة للحماية الرئاسية. وشكل هذا حافزاً قوياً للمقاتلين اليمنيين للتسابق إلى الحدود السعودية نظراً للفارق المهول في الراتب. حيث يستلم الجندي اليمني شهرياً من الدولة 60 ألف ريال يمني، أي ما يوازي فقط 400 ريال سعودي تقريباً، وبنسبة 26% فقط من الراتب الذي تدفعه السعودية للجندي اليمني (تم حساب متوسط سعر صرف الريال السعودي عند 150 ريالاً يمنياً. حيث يتراوح السعر حالياً بين 130 و150 ريالاً. وكان تجاوز هذا العام حاجز الـ200 ريال يمني بين شهري أكتوبر ونوفمبر وإلى جانب اللواءين الجنوبيين المذكورين، كانت هناك ألوية (شعبية) أخرى تم تجميعها من مقاتلين يمنيين من مختلف المحافظات الشمالية، على رأسها لواء النخبة ولواء فتح، إلى جانب لواء العروبة. ولاحقاً تبعها تشكيل ألوية قتالية أخرى، بينها اللواء 102، واللواء 103 مشاة (تم تعديله لاحقاً إلى اللواء 143 مشاة)، واللواءان التاسع والعاشر مشاة، ولواء الحزم، وغيرها.
وآلت قيادة جبهات القتال على الحدود السعودية حالياً إلى هذه الألوية، بعد انسحاب لواءي القباطي (9 فبراير 2017) والمحضار أواخر العام نفسه.
مندوب سعودي في تعز
منذ انسحاب اللواءين الجنوبيين تحديداً، تركز اهتمام السعوديين أكثر على استقطاب المقاتلين من المحافظات الشمالية، لتعويض النقص في القوة البشرية. وأصبحت محافظة تعز جنوبي غربي اليمن (256 كم جنوب صنعاء)، واحدة من أكثر المحافظات التي خضعت لاستقطاب المقاتلين غير الرسميين. ويرجع بعض المراقبين عملية استقطاب وتجنيد الشباب في تعز إلى مطلع العام 2017، حيث بدأت حينها بوتيرة بطيئة، وغالباً ما كنت تقتصر على تزكية مقاتلين سلفيين. لكن مع انسحاب لواء المحضار من البقع نهاية العام الماضي بدأت وتيرة الاستقطاب تتصاعد في تعز بشكل أكبر، تحت ضغط الحاجة لتغطية النقص العددي للمقاتلين. وبحسب المصدر، حضر الضابط المذكور إلى تعز مع نهاية العام 2017 تقريباً في مهمة رسمية لترتيب عملية استقطاب المقاتلين إلى الحدود السعودية، حيث شكلت له المدينة مخزناً ثرياً من المقاتلين المتمرسين والراغبين في تحسين أحوالهم المادية المتعبة بسبب الحرب والحصار وقلة فرص العمل، الأمر الذي سهّل كثيراً من استقطابهم.
وتؤكد المعلومات، أن الضابط المذكور التقى أكثر من مرة بالقيادي السلفي المعروف عادل عبده فارع، المكنى بـ”أبو العباس”، قائد كتائب أبو العباس في تعز. وكوّن بالتنسيق معه فرق استقطاب “سلفية” في المدينة القديمة والحي الجمهوري. لكن العملية خرجت عن السيطرة مؤخراً، ولم تعد تقتصر على استقطاب شباب التيار السلفي، بل توسعت أكثر لتشمل كل من يرغب في جني المال، خصوصاً مع اشتعال المعارك الحدودية والحاجة الملحة لتعويض المقاتلين.
شبكات سماسرة
خلال الأشهر الخمسة الأخيرة، كانت السمسرة وتفويج المقاتلين إلى الحدود قد تحولت إلى تجارة سهلة لجني المال الوفير والسريع. كبرت شبكة الاستقطاب وتوسعت أكثر، بعد أن قام كل سمسار تقريباً بفتح المجال أمام سماسرة آخرين يعملون لحسابه لقاء ربع أو نصف المبلغ المخصص (500 ريال سعودي) عن كل مجند، فنشأت بذلك شبكات عنكبوتية للتجنيد. وكان أشهر هؤلاء السماسرة، عبدالله الكوري، وقد جند المئات من الشباب، وهناك شخص آخر اسمه عبد الناصر الصلاحي، من حي عصيفرة شمال مدينة تعز، وهو حسب وصف أحد المصادر المحلية “سمسار خطير، من بقايا حزب الرئيس الراحل علي عبد الله صالح”. وهذان ليسا سوى نموذجين من شبكة كبيرة تعمل في مختلف أحياء المدينة وقرى الريف التعزي. وذكَرَ ناشطون اسم سمسار شهير هو “شمسان القيسي” من اللواء 22 ميكا، محسوب بأنه مقاتل في البقع، نجح في إرسال مئات المجندين إلى الحدود، وأصبحت لديه شبكة واسعة من السماسرة في تعز، يعطيهم مبلغ 100 ريال سعودي أو أكثر قليلاً عن كل فرد يتم تجنيده. كما أصبح سائقو حافلات نقل المجندين إلى منفذ الوديعة الحدودي يعملون سماسرة هم أنفسهم، كما يقول “عارف”، وأضحت لديهم شبكات في الأحياء والقرى يدفعون لهم 100 ريال سعودي عن الشخص الواحد -من 500 ريال التي تُدفع لهم- إلى جانب 50 ألف ريال يمني يحصلون عليها من السعوديين عن الفرد مقابل التوصيل ومصاريف الرحلة إلى منفذ الوديعة.
كوابيس بين الأحلام
في 28 أكتوبر الماضي كانت حافلة مكتظة بـ19 شاباً تغادر حي هاشم (الضبوعة)، متوجهة صوب منفذ الوديعة. ويؤكد “ج. الشرعبي” -مدرس من سكان الحي- أن هذه الدفعة لم تكن هي الأولى من شباب الحي الذين يتوجهون للقتال في البقع تحت إلحاح وضغط الحاجة للمال، مشيراً إلى أن “نسبة كبيرة من الذين يذهبون هناك تتراوح أعمارهم بين 18 و22 سنة”.
في 29 أكتوبر الأول الماضي، كتب الصحفي عبد الرحمن الشوافي على صفحته في فيسبوك محذراً “البقع في طريقها إلى أن تصبح هولوكوست شباب تعز خلال هذه الفترة”. وتساءل “من المسؤول عن عمليات التجنيد؟ ومن يقف خلف إرسال شباب تعز إلى المحرقة؟ وأين هو دور الجهات الأمنية والعسكرية؟”.
مقتل 20 شاباً من أبناء تعز بالجبهة الحدودية
وينقل “عرفات الصبري” -وهو أحد الناشطين المهتمين بهذه القضية على صفحات التواصل الاجتماعي- قصة ثلاثة شبان من أسرة واحدة من أبناء مديرية “سامع” جنوبي تعز، لقوا حتفهم يوم 31 أكتوبر الماضي في جبهة “علب” على الحدود السعودية، بعد ثلاثة أسابيع فقط من مغادرتهم تعز ووصولهم إلى الجبهة. وفي إحصائية خاصة، هناك ما لا يقل عن 20 شاباً من أبناء تعز قتلوا على جبهات الحدود السعودية في خمسة أيام متفرقة، توزعت على النصف الأول من نوفمبر 2018. ويعتقد هاشم الصبري، الذي ينشر على صفحته الشخصية ما تصله من أنباء الوفيات على جبهات الحدود، أن أعداد الضحايا من أبناء تعز في “محرقة البقع” كبيرة جداً، لكن “لا سبيل لنا لمعرفة الأرقام الحقيقية أو التقريبية على الأقل في ظل كل هذا التكتم الحاصل من قبل الجهات الرسمية المعنية”. وأكد الصبري أن معظم ما ينشره في هذا الجانب يعتمد فيه على مجهوده الشخصي في تتبع وإحصاء ما ينشر من قبل أسر الضحايا أنفسها أو مقربين منها على صفحات فيسبوك. والواقع -كما يقول- أن نسبة كبيرة من الأسر لا تنشر مثل هذه الأخبار.
وعن حجم الضحايا المتزايد، كتب الصحفي فواز الحمادي على صفحته في فيسبوك يوم 13 نوفمبر 2018 “ستنتهي الحرب، وسيكون عدد الشهداء من أبناء تعز الذين استشهدوا في الجبهات الأخرى، خاصة جبهات الحدود، يفوق عدد الشهداء داخل المحافظة أضعافاً مضاعفة”.
مسعى سعودي لتوسيع طوق الأمان
بحسب المصدر، فإن السعودية بهذه الطريقة نجحت فعلاً في تأمين تلك المناطق منذ مدة عن طريق المقاتلين اليمنيين، مضيفاً أنها حالياً ربما تسعى إلى توسيع طوق الأمان لحدودها مسافات كبيرة من خلال نقل عملياتها داخل محافظة صعدة نفسها.
وأرجع أستاذ العلوم السياسية في جامعة الحديدة الدكتور فيصل الحذيفي سبب استعانة السعودية بمقاتلين يمنيين “بطريقة غير قانونية”، إلى أنها في حقيقة الأمر “تتجنب الاعتراف بالعجز العسكري الذي منيت به خلال السنوات الأربع من الحرب تجاه ميليشيات غير نظامية.. وهي الدولة التي تمتلك فائض القوة والتقنية والعتاد، لذلك لجأت، بصفة غير رسمية إلى استغلال حاجة اليمنيين، كون ذلك هو الأنسب لها مادياً ومعنوياً”.
ويعتقد فيصل أن فكرة إبرام اتفاقية عسكرية مع الجيش اليمني ستترتب عليها أعباء مادية باهظة الكلفة، فضلاً عن أن مثل ذلك من شأنه أن يمنح الجانب اليمني أفضلية على حسابها، وهي لا ترغب بحدوث ذلك، وفق تقديره.
أما الخبير اليمني في الشؤون العسكرية والإستراتيجية علي الذهب فقدّم توصيفاً آخر للمعارك التي تخوضها السعودية على حدودها بمقاتلين يمنيين خارج إطار الدولة. فهي في نظره “تندرج في إطار توصيفات قتالية من قبيل: “إستراتيجية إراقة الدم”، وإستراتيجية الاستنزاف والإنهاك..”، مضيفاً أن هذه الإستراتيجيات اتبعت من قبل التحالف في عدد من الجبهات مثل نهم وتعز والبيضاء وغيرها.
الأهداف السعودية
بالنسبة للمتابعين لهذا الموضوع، يبقى السؤال الأهم: لماذا تلجأ السعودية إلى هذا “التجنيد الوهمي” رغم أنها قادرة على التنسيق مع الجانب اليمني لانتداب ألوية عسكرية رسمية للقتال على الحدود؟ يقول مصدر عسكري في تعز إنه لا يملك إجابة رسمية، في حين رجح مصدرنا العسكري في مكتب قيادة الأركان أن الأمر “قد يعود إلى رغبة السعوديين في حشد أكبر عدد ممكن من المقاتلين بهذه الطريقة لتأمين حدودهم بشكل سريع”.
غموض في آلية التعامل
في الوقت الذي تحوّلت فيه إلى قضية رأي عام مثيرة للجدل، تكتنف تفاصيل تشكيل وعمل الألوية المقاتلة على الحدود السعودية، وطريقة التعامل مع المقاتلين وحقوقهم، سحابة من الغموض.
لم يأت الغموض فقط جراء التكتم والسرية التي تحاط بها العملية من الجانبين السعودي واليمني الرسميين، بل أيضاً لأن الجميع تقريباً يتعاملون مع الأمر بحساسية شديدة خشية أن يفقدوا مصالحهم، أو خشية أن يتعرضوا للأذى. كما ينظر آخرون إلى الأمر باعتباره أسراراً عسكرية، أو محاولة تشويه للشرعية والتحالف.
واعترف مصدر عسكري مسؤول، عمل في مكتب رئيس هيئة الأركان السابق اللواء طاهر العقيلي قبل تغييره مؤخراً، بوجود مقاتلين شعبيين (غير نظاميين) يقاتلون في الحدود السعودية اليمنية، إلا أنه قلل من حجم هذه المشكلة. وأوضح المصدر، أن معارك الحدود لا تقتصر فقط -كما هو شائع- على أولئك المقاتلين الذين يتم استقدامهم بطرق غير رسمية وخارج إطار المؤسسة العسكرية، بل هناك ألوية رسمية تابعة للجيش اليمني تقاتل في الحدود، ومعظم المقاتلين غير الرسميين ينضوون في إطار تلك الألوية الرسمية.
وبعد البحث والاستقصاء، وجدنا أن هناك ألوية أخرى حكومية تشارك في القتال، بينها ألوية تابعة لحرس الحدود اليمني. وأكد المصدر أيضاً أن الضباط الذين يتولون قيادة تلك الألوية “تم تعيينهم بقرارات رسمية من قبل حكوحة منصور هادي”.
ارسال التعليق