مشروع نيوم: حلمُ الأمير.. كابوسُ الرعية
بقلم: د. عبدالهادي خلف...
في أواخر نيسان/أبريل الماضي تناقلت وسائل الإعلام المحلية والعالمية أخبار المواجهات في المناطق التي تسكنها قبيلة الحويطات في محافظة تبوك في السعودية، جراء إحتجاج المواطنين على تهجيرهم القسري منها.
وتبين لاحقاً وصول تلك المواجهات بين الأجهزة الأمنية والسكان إلى أوجها في قرية الخريبة، مما أدى إلى إعتقال كثيرين كما أدى إلى مقتل عبدالرحيم الحويطي الذي إعتصم في منزله. كان يمكن، كما يحدث غالباً، ألاّ يهتم الإعلام بتلك المواجهات ولا بمعرفة أسبابها. فمثلها يحدث في الرياض نفسها كما يحدث في مناطق أخرى غيرها، وأغلبها لا يثير إهتمام الإعلام في منطقتنا العربية المتشبعة بالمآسي الإنسانية. ما حدث هذه المرة إن القتيل، عبدالرحيم الحويطي، قام بتوثيق تلك الفترة القصيرة التي سبقت مقتله.
ولولا نجاحه في بث ذلك التوثيق بالصوت والصورة عبر وسائل الإتصال الإجتماعي لما إنكشفت بعض تفاصيل التدمير المتواصل الذي تتعرض له البيئة والتراث الثقافي في تلك المنطقة تحت غطاء “رؤية 2030”.
ولولا ذلك التوثيق لسادت رواية الإعلام الرسمي عمّا حدث في قرية الخريبة بإعتباره “إنجازاً أمنياً يضاف إلى السجلات المتواصلة في كسر مجاديف الإرهاب”.
إذ لا تختلف هذه الكلمات عما ورد في الرواية الرسمية التي نشرها الإعلام الرسمي في أواخر شهر تموز/يوليو 2017 بعد أن حاصرت قوات الأمن السعودي مدينة العوامية في المنطقة الشرقية وأغلقتها قبل هدم حي العوامية التاريخي وتسوية مبانيه بالأرض رداً على إحتجاج سكانه على قرار إجلائهم من بيوتهم إلى منطقة أخرى. تُضطر دولٌ بين حين وآخر إلى إجلاء سكان مناطق معينة لمواجهة إحتياجات أمنية/عسكرية أو لتنفيذ مشاريع تنموية ذات أهمية إستراتيجية كبرى. وفي أغلب الأحوال، تنجم عن إجراءات الإجلاء توترات إجتماعية وسياسية بل ومأسٍ قد يطول أمد معالجتها والتخلص من آثارها.
ولهذه الأسباب لا تلجأ الدول غير الاستبدادية إلى إجلاء السكان من مناطقهم إلا للضرورات القصوى. وفي جميع الأحوال لا يحدث ذلك إلا بعد دراسات تحدد النتائج المحتملة للإجلاء على حقوق الجماعات المحلية وعلى البيئة الطبيعية والثقافية.
وبطبيعة الحال لا يتم إتخاذ القرار بدون التداول مع ممثلين معتمدين للسكان المنوي تهجيرهم. أما في الدول الإستبدادية فيحدث مثل الذي عانى منه أفراد قبيلة الحويطات في محافظة العُلا في شمال غربي السعودية، وسكان مدينة العوامية في محافظة القطيف في شرقها.
“رؤية 2030”: تلازم الهدْر والتدمير:
حين أعلن محمد بن سلمان في 25/4/2016 عن “رؤية 2030″ لم تكن مضامين تلك الرؤية جاهزة، فيما عدا الإرتكازعلى ثلاثة شعارات كبرى:”إقتصاد مزدهر – مجتمع حيوي – وطن طموح”. ولقد تبين لاحقاً إن “الرؤية” لم تكن حتى بالنسبة لولي العهد نفسه وبطانته أكثر من تلك الشعارات.
بعد ذلك بسنة ونصف السنة، دعا محمد بن سلمان، أمام 2500 من كبار شخصيات الأعمال والسياسة في الرياض لتدشين مشروع “مدينة نيوم” بكلفة 500 مليا ر دولار. وفي كلمته أعلن الأمير إنها ستكون مخصصة حصراً لاستثمارات “الحالمين وموقعاً للحالمين الذين يريدون خلق شيء جديد في هذا العالم، ولا مكان فيها للاستثمارات التقليدية”. وكان لافتاً أن يستعير الأمير في كلمته ذلك اليوم عبارات إستخدمها الغرب في الماضي لتبرير التوسع الإستعماري وتهجير السكان المحليين.
فلقد ركز الأمير على أن من ميزات المنطقة المخصصة لإنشاء مدينته “إنها شبه خالية من السكان”. بطبيعة الحال، لم تكن الأرض المخصصة لمشروع “مدينة نيوم” خالية أوحتى شبه خالية من السكان، وإلا لما إحتاجت السلطات السعودية إلى إستعمال مختلف وسائل الترغيب والترهيب لإجلاء السكان عن مناطقهم.
بل إن قرى المنطقة ومدنها شهدت منذ إختيارها موقعاً لمشروع “نيوم” تحركات قام بها الأهالي يطالبون السلطات بتوفير خدمات أساسية لمواجهة النمو السكاني في السنوات الأخيرة.
تكرار سفاهات الطفرة النفطية:
بعد إعلان الرؤية وبعد تدشين مشروع “نيوم”، إحتاج الخبراء المحليون والأجانب الذين تمت الإستعانة بهم إلى وقت طويل لإجتراح ملامح عددٍ من المشاريع والبرامج التي يمكن البدء في التخطيط لتنفيذها. خلال سنوات البحث والتقصي التالية تكررت بعض المهازل التي شهدتها بلاده وبقية بلدان الخليج في السنوات الأولى من الطفرة النفطية في منتصف سبعينيات القرن الماضي.
من بين العديد من مشاريع السَفَه الرسمي في سبعينيات القرن الماضي كان مشروعٌ تولاه الأمير السعودي محمد الفيصل بصفته محافظاً لمؤسسة تحلية المياه المالحة.
استمر المشروع لأكثر من عشر سنوات بهدف نقل جبال جليدية من القطب الجنوبي إلى السعودية حسب “خطة وطنية طموحة لتوفير الحلول الجذرية لمشاكل المياه فيها”. وحسبما يذكر أحد معاونيه، شكل الأمير فريقاً دولياً لدراسة إمكانية تنفيذ المشروع وإنشاء “بنك من المعلومات عن الجبال الجليدية لحصر أماكن تواجدها” وتنظيم مؤتمرات علمية دولية حضرها مئات العلماء لدراسة “إمكانية نقل الجبال الجليدية إلى المناطق التي تعاني من الفقر المائي”.
إلا إن مظاهر السـفه في عهد بن سلمان فاقت ما ظهر في عهود من سبقوه من أعمامه في حكم السعودية.
بعد إعلان “رؤية 2030” صارت الرياض، مرة أخرى، قبلة لوفود تترى من أصحاب الأعمال وممثلي كبريات الشركات وبيوت الخبرة العالمية لعرض مشاريعهم وبرامجهم وإختراعاتهم.
جميع هؤلاء يعرفون إن صاحب الرؤية هو صاحب القرار وإنه في عجلة من أمره ولا وقت لديه ولا قدرة على دراسة وتمحيص ما يُعرض عليه.
كان واضحاً إن جهل م ب س بمتطلبات التخطيط لتغيير اقتصادي اجتماعي كالذي رفع شعاراته ستجعل من “رؤية 2030” مصَّباً مفتوحاً لهدر ثروات السعودية وإرتهان مستقبلها.
فمن بين الشواهد الكثيرة على ذلك نجد جملة الإتفاقيات والعقود التي تمت خلال السنوات الأربع الماضية من عمر الرؤية. أحدها تنسبه وكالة بلومبرغ للملياردير الياباني ماسايوشي سون الذي التقى في طوكيو بمحمد بن سلمان حين كان، ولياً لولي العهد، في أيلول/سبتمبر 2016.
واستطاع في 45 دقيقة أن يقنعه بأن تستثمر السعودية مبلغ 45 مليار دولار لتدشين أحد مشاريعه في 17/5/2020 أي بعد أقل من أربع سنوات،أعلنت تلك الشركة اليابانية عن خسائر تكبدتها تصل إلى 16.8 مليار دولار.
إعادة صياغة “الرؤية”:
تزامن انتشار خبر مقتل عبد الرحيم الحويطي وأخبار المواجهات في الخريبة وجوارها مع عدد من الأخبار السلبية عن الوضع الداخلي في السعودية. فبجانب كلفة الحرب الدائرة في اليمن وكلفة تمويل حلفاء السعودية في مختلف البلدان، تعاني السعودية من آثار تدهور أسعار النفط وإنخفاض عائداته.
وتضيف تقلبات الأسواق النفطية والمالية العالمية والخسائر الناجمة عن جائحة كورونا أعباءً إضافية على الخزانة السعودية. فرض كل ذلك على السلطة تقليص الميزانية الإنفاقية، وخاصة في مجال الخدمات ألاساسية، علاوة على تحميل المواطنين جزءً من هذه الأعباء عن طريق رفع الرسوم والضرائب.
هذه الأسباب مجتمعة لن تجعل من الممكن أن تتحقق الأحلام التي راودت الأمير حين أعلن “رؤية 2030”. وإذا ما إستمرت هذه الأوضاع، فليس أمامه من خيارات سوى إعادة صياغة “الرؤية” بتأجيل بعض أحلامها وبالتنازل عن البعض الآخر.
وقتها قد يتمكن من التركيز على ما يستطيع تنفيذه في ظل شروط قاسية يفرضها تدهور الوضع المالي للسعودية، كما يفرضها إحتمال تزايد الإبتزاز التي يمارسه الرئيس الأمريكي مقابل إستمرار الحماية التي توفرها بلاده للرياض.
“نيوم”صارت أكبر من الرؤية:
يستطيع ولي العهد وقتما يشاء أن يعلن تأجيل أو إلغاء أيٍ من المشاريع التي أعلنها ضمن “رؤية 2030” سواء تلك التي في طور التخطيط أو تلك التي بدأ بالفعل تنفيذها. وهو يستطيع أن يعتمد على أجهزة أمن لا حدود لسلطاتها لردع من يعترض.
ويستطيع أن يحرك آلة إعلامية متعددة الآذرع لتسويق مبررات التأجيل أو الإلغاء. بل هو يستطيع بفضل هذه الآلة الإعلامية أن يعلن “انتصارات” باهرة في اليمن تبرر وقتما يريد إنسحاب بلاده من حربهاعليها.
لكنه لن يستطيع التخلي عن تنفيذ مشروع “نيوم”. فهذا خرج من يديْه، وأصبح بعد إعلان الرئيس الأمريكي عن “صفقة القرن” من مستلزمات إعادة تشكيل المنطقة.
نعم، لقد بدأ المشروع سعودياً. ونعم، خصصت المملكة له منطقة تبلغ مساحتها ستة وعشرين ألف كيلومتر مربع، بما فيها جزر في البحر الأحمر من بينها جزيرتي تيران وصنافير اللتيْن تنازلت مصر عنهما لصالح السعودية. إلا إن الوضع تغير خلال السنوات الأربع التالية لإعلان المشروع.
فمن جهة إزداد إرتهان السعودية لإرادة الولايات المتحدة الأمريكية وإزدادت حاجة محمد بن سلمان لها كيْ تضمن مستقبله.
من جهة أخرى تقلصت قدرة السعودية على التأثير في سوق الطاقة والمال. فلم يعد ممكناً الحديث بجدية عن “مشروع نيوم” كمشروع تنموي يسهم في نقل السعودية عمرانياً وتقنياً وإقتصادياً إلى مصاف الدول الكبرى، كما روجت لذلك مطويات شركات العلاقات العامة وملصقاتها.
فلقد أصبح مشروعاً يضع حجر الأساس لبناء تجمع إقليمي يضم أربعة دول متجاورة وحليفة للولايات المتحدة الأمريكية هي السعودية والأردن ومصر وإسرائيل.
سيبقى المجال مفتوحاً للتكهنات المتعلقة بالإحتمالات الجيوسياسية لقيام ذلك التجمع الرباعي تحت إمرة الولايات المتحدة الأمريكية.
أما في المجال الإقتصادي فقد يعتمد ذلك التجمع الإقليمي على تعديلات مناسبة لـ”النموذج التنموي” الذي وضعته الولايات المتحدة تحت مسمى “ المناطق الحرة المؤهلة” (أو ما يسمي “كويز”) في كلٍ من الأردن ومصر لتسهيل إقامة مشاريع إسرائيلية في البلدين تؤهلهما للاستفادة من الإعفاءات الجمركية والتسهيلات الأخرى التي توفرها اتفاقيات التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
ستوفر منطقة “نيوم” لقادة التجمع الإقليمي الرباعي و لمشاريع “الكويز” المقبلة أراضٍ شاسعة تقارب مساحتها مساحة كل فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر. (أو مرتيْن ونصف مساحة لبنان). فإن حدث ذلك يستطيع ولي العهد السعودي الإدعاء إن بعض أحلامه قد تحققت.
ارسال التعليق