خوان كارلوس وحديث المنافي الأندلسية
التغيير
مدهش خبر نفي ملك إسبانيا السابق، خوان كارلوس، نفسه، فالملكية والنفي والأندلس مفردات تغري بالتأمل، وتفتح الباب لذكريات تاريخية وشجون سياسية متعددة الوجهات.
وفي قصيدته الشهيرة "أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي"، بدا الشاعر الفلسطيني محمود درويش كأنه وضع خطًا باللون الأحمر تحت سؤال الصلة بين الأندلس وفلسطين، بعد شجار ثقافي/ سياسي تداول فيه "المتنبازون بالأيديولوجيات"، سهام النفي القاطع، والإثبات القاطع، ومحاولات التلفيق والتوفيق.
ومع مشهد نفي ملك (متوجًا كان أو مُتنحيًا)، من المتوقع أن يتساءل أحد، تلقائيًا، عن التاريخ الذي يكرّر نفسه أو لا يكرّر. وقبل سنوات، طلبت مني مجلة متخصصة أن أختار موضوعًا من التاريخ استوقفني، فكتبت دراسة عنوانها: "منافٍ لها تاريخ"، بعدما لفت نظري قول مؤرخ إن مدينة الكرك الأردنية ظلت ما يقرب من مائة عام "منفى سلاطين المماليك"!
وقد خرج المعتمد بن عباد من الأندلس أسيرًا إلى المنفى، بعدما استعان بـ"المرابطين"، فكتبوا نهاية ملك بني عباد. أما ملك غرناطة الأخير فانتقل إلى جنوب المتوسط بعدما وصلت "حرب الاستعادة" إلى آخر محطات مسيرتها.
وعلى خطى المعتمد بن عباد، المنتقل من عرش غارق في الترف شمال المتوسط إلى المنفى القاسي المتقشف جنوب المتوسط، وبعده أبو عبد الله، ملك غرناطة الأخير، بعدهما، يخرج خوان كارلوس من بلد كانت صورته في التاريخ، حقيقةً أو انتحالاً، صورة جنة على الأرض، وبعد ما يزيد عن خمسة قرون من "آخر مشهد أندلسي" (بتعبير محمود درويش)، يعود بعض العرب إلى المساهمة في صنع المشهد السياسي، لا فاتحين ولا منتصرين، بل دافعي "رشى سياسية"!
عاد "العربي" إلى إسبانيا، ولم يعد إلى الأندلس، فاعلًا سياسيًا يأمل أن يفتح بأمواله بابًا لم يعد قادرًا على فتحه والدخول منه بوسائل "الفعل العلني" القانونية، وتلك مشكلةٌ من أخطر مشكلات "المال السياسي العربي" في الغرب خلال السنوات القليلة الماضية. والولع بالتحرّك في "الخفاء".
وفي بداية القرن العشرين، كتب الفيلسوف جورج زيميل مقالًا عن السرّية، ما زال أحد أكثر الرؤى التنظيرية تأثيرًا في دراسات الظاهرة. هاجم زيميل السرّية، واعتبر أنها خطر على المجتمع المفتوح ودولة القانون، ودليل على وجود "شر غير معلن" و... ...
والاعتماد المفرط على "تكتيك الحسابات السرّية" ينطوي على مخاطر كبيرة، على صورتنا، بل مصالحنا، وخصوصا إذا أضيفت إلى ملامح "الصورة النمطية" للعربي، وهي أصلًا مشوهة بشدّة، ملمح التحرّك في الخفاء لإفساد النخب الرسمية أو غير الرسمية في الغرب، فستكون النتائج مؤسفة جدًا.
وخلال السنوات القليلة الماضية، تشهد فرنسا وجنوب أفريقيا وماليزيا إما تحقيقات أو محاكمات لمسؤولين حاليين أو سابقين على خلفية ممارسات مالية غير قانونية ذات بعد سياسي، ما يعني أن الاعتماد على المال، غالبًا خارج القانون، يكاد يصبح نهجًا مفضلًا لدى بعض الدول.
وفي حال استقصيت الظاهرة، فسوف تطول القائمة على نحوٍ ربما يتجاوز ما يمكن تخيله. وفوضى المال السياسي ظاهرة عالمية، لا شك في ذلك، لكن واقعها في العالم العربي أخذ، خلال السنوات القليلة الماضية، منحىً دراميًا، فالأرقام بمئات الملايين وقوائم المانحين والمتلقين تتضخم بشكلٍ لا سابقة له.
وأذكر في أثناء عملي في تحرير "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية" لمؤلفها عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، قصة حكاها لي عن "شيك لحامله" تسلمه شخص فلسطيني معروف من مسؤول عربي ليسلمه إلى "حاخام ناطوري كارتا"، وهي حركة معادية للصهيونية، وكيف أن الشيك لم يصل إلى المرسل إليه.
..لكن ما أنا على يقين منه أن نفي الملك الإسباني السابق، خوان كارلوس، رسالة وصلت إلى المرسل إليه.
ارسال التعليق