.jpg)
المملكة" في عيدها الـ95..فمتى يكون عيد الشعب الأول بالحرية ؟
[عبد الرحمن الهاشمي]
بقلم عبد الرحمن الهاشمي
بمناسبة الذكرى الخامسة والتسعين لتأسيس مملكة آل سعود، يتكرر المشهد الرسمي: استعراض إعلامي ضخم، وأغانٍ وطنية، وخطاب عن "النهضة" و"الوحدة". لكن القراءة النقدية تكشف أن ما يُحتفى به ليس سوى إعادة إنتاج لبنية سلطوية قديمة، مغلفة بطلاء التحديث الشكلي الواجهاتي. فالنظام السعودي، مهما زيَّن صورته ببرج "ذا لاين" أو حفلات الترفيه، يظل قائما على ثلاث ركائز ثابتة: الملكية المطلقة، الاقتصاد الريعي النفطي وما بعده، واستراتيجية شرعية هجينة تجمع بين قمع سياسي مطلق و"انفتاح" اجتماعي محسوب.
"السعودية" دولة ملكية مطلقة، حيث تتجمع السلطات الثلاث في يد العائلة الحاكمة، بلا دستور ملزم أو مؤسسات تمثيلية. ومع صعود محمد بن سلمان، تحولت هذه المركزية إلى أقصى أشكالها، إذ لم يعد النظام قائما على توازنات العائلة، بل على شخص واحد يقرر في كل صغيرة وكبيرة. فقد جاءت حملة "مكافحة الفساد" لتصفية خصومه داخل الأسرة، وتحوّلت موارد الدولة إلى ملكية شبه خاصة للعائلة، بينما يواجه المواطن أحكاما قد تصل إلى الإعدام أو المؤبد لمجرد تغريدة، كما في حالة محمد الغامدي. هكذا تتجلى الدولة في نمطها القرسطوي، حيث تُدار السلطة على قاعدة الولاء الشخصي لا الكفاءة، ويذوب الحد الفاصل بين المال العام والمال الخاص.
يستند النظام منذ التأسيس إلى الريع النفطي الذي موّل شبكة الرعاية والمحسوبية. ومع إدراك خطر التحولات في سوق الطاقة، جاءت "رؤية 2030" كمحاولة لتأسيس ريع جديد. فمشاريع مثل "نيوم" وشراء الأندية الأوروبية ليست بوابة نحو اقتصاد إنتاجي، بل نحو اقتصاد استعراضي يقوم على استثمارات صندوق الثروة السيادي، أي على استمرار سيطرة الدولة/العائلة على الموارد. بل إن تنفيذ هذه المشاريع أظهر الوجه القمعي للتحديث، عبر تهجير القبائل من أراضيها في شمال غرب "المملكة" بعسف قمعي ومن دون تعويض عادل. بعبارة أخرى: الانتقال ليس من الريع إلى الإنتاج، بل من ريع النفط إلى ريع الاستعراض والعلامات التجارية العالمية.
ومن أجل تسويق نفسه داخليا وخارجيا، اعتمد النظام سياسة الوجهين: "انفتاح" اجتماعي محدود، وقمع سياسي شامل. صحيح أنه سمح للنساء بقيادة السيارة وانتهج سياسة الترفيه المبتذل، لكنه في الوقت ذاته ألغى المجال العام تماما؛ فلا أحزاب، ولا نقابات مستقلة، ولا مجتمع مدني. فمزاعم الإصلاح الاجتماعي هنا ليست خطوة معبرة عن تحول إيجابي أو انفتاح يحمل مؤشرات عن تحول ما في أسلوب الحكم ، بل وسيلة لإلهاء الشباب وتحويلهم إلى مستهلكين للترفيه ومدمنين عليه، بينما يُجرَّم أي نشاط سياسي أو حقوقي، حتى لو صدر عن ناشطين كانوا من دعاة الإصلاح الاجتماعي نفسه. إنها وصفة لإنتاج شرعية سياسية خارج المواصفات المتعارف عليها في عالم السياسة.
ثم إن النظام الذي قام على سلفية منغلقة في بعده العقدي، اضطلع بالإضافة الى بناء دولة قمعية شمولية، بوظيفته إقليمية خطيرة. فمنذ تأسيسه، كان يقوم بدور "الضامن" لمصالح الغرب في الجزيرة العربية؛ حماية تدفق النفط، ومنع أي مشروع استقلالي أو تحرري في المنطقة. واليوم يتجلى هذا الدور في مستويين متكاملين: التآمر على القضية الفلسطينية عبر التشبيك الاستراتيجي مع (إسرائيل)، وضمان الغطاء السياسي والأمني لتوسعها في المنطقة، ثم معاودة التآمر على اليمن بعد فشل حربه العدوانية عليه، اليمن الذي يمثل جبهة الإسناد القوية لغزة في طور جرائم الإبادة. كل ذلك ضمن هندسة أمنية أميركية/ إسرائيلية تستهدف إسقاط حكومة أنصار الله كمقدمة للسيطرة على البحر الأحمر وباب المندب.
بعد خمسة وتسعين عاماً، يقف النظام السعودي أمام معضلة وجودية. يريد أن يظهر كدولة عصرية منافسة، لكنه يصر على التمسك بآليات الحكم التقليدية. "الاستقرار" الذي يتغنى به ليس سوى نتاج قمع وشراء ولاءات، لكنه اليوم يواجه ثلاثة عوامل ضاغطة: تحولات الطاقة العالمية التي تهدد مركزية النفط، تراجع المظلة الأميركية التي لم تعد كما كانت خاصة بعد الضربة الإسرائيلية للدوحة، وجيل شاب متصل بالعالم لم يعد يقبل بالعيش تحت سلطة قمعية لا تتمايز فيها السلط وبلا مرجعية دستورية.
في ظل هذه الديناميات، يصبح السؤال عن مستقبل النظام محكوما بحتمية لا لبس فيها: إما أن يتغير جذريا باتجاه مشاركة شعبية حقيقية، أو أن ينهار تحت ضغط التحولات. فالمظلات الخارجية تتآكل، والشرعية الداخلية واهية، والمشاريع الاستعراضية عاجزة عن إنتاج استقرار طويل الأمد. وعليه، فإن ما بدا وكأنه "قدر أبدي" هو في الحقيقة مرحلة تاريخية إلى زوال. إن سلطة الريع وآليات القمع والإرتهان إلى الاتفاقات الأمنية قد تضمن بقاءً مؤقتا، لكنها لا تصنع مستقبلا. المستقبل، كما تؤكد كل معطيات التاريخ، لن يُبنى إلا على إرادة الشعوب الحرة
ارسال التعليق