حدث وتحليل
عمى القلوب: كيف حُرِّفت الفتوى لإدامة عرش آل سعود
[ادارة الموقع]
المقدمة
منذ تأسيس الدولة السعودية الحديثة، تحوّلت الفتوى من منارةٍ للهداية إلى سيفٍ سياسيٍّ يُشهر في وجه المعارضين، ودرعٍ يُحصّن عروش الملوك.
لم تعد دار الإفتاء مرجعًا يُستنار به في الدين، بل أصبحت جهازًا تابعًا للنظام يطوّع النصوص لتثبيت حكم آل سعود، فصارت الكلمة الشرعية تُباع في سوق السلطة بثمنٍ بخس.
هذا التقرير يستعرض المسار التاريخي والشرعي لعمى القلوب الذي أصاب المفتين الرسميين، حتى صاروا لا يرون من الحق إلا ما يأمر به وليّ الأمر، ويغضّون الأبصار عن عدل السماء.
لقد انقلبت المبادئ الشرعية إلى أدواتٍ سياسية تتلون مع المصالح، وصار الدين واجهةً من واجهات القصر.
القسم الأول: المفتون الأربعة وعمى القلب
1. محمد بن إبراهيم آل الشيخ (1953–1969): تدشين الطاعة المطلقة
هو المؤسس الفعلي لنظام الفتوى الرسمي، إذ ربط الدين بمفهوم الدولة لا بمفهوم الأمة.
غرَس في عقول طلابه وجوب طاعة وليّ الأمر باعتبارها أصلًا عقديًا لا يقبل الجدال، حتى وإن جار الحاكم وظلم.
أرّسَى بذلك مبدأ “الخروج على ولي الأمر” كأداةٍ لقمع أي نقدٍ سياسي أو اجتماعي، فبات كل احتجاج خيانة، وكل اعتراض فسقًا.
لقد فتح الباب للقتل باسم الشرع حين يهدَّد العرش، وبه أُسِّست الديانة الرسمية للطاعة العمياء.
2. عبدالعزيز بن باز (1993–1999): براغماتية المصالح العليا
ابن باز مثّل الوجه البراغماتي للدين الرسمي؛ غيّر فتاواه وفق ما يخدم النظام.
قضية الاستعانة بالأجنبي في حرب الكويت: قبل احتلال الكويت كان يحرم وجود قوات غير مسلمة في جزيرة العرب، وبعد الإحتلال أجاز دخول الجيش الأمريكي واعتبره “دفعًا للعدوان”.تحريم الاحتجاج: وصف المظاهرات بأنها خروج على وليّ الأمر، وجعل السكوت على الظلم عبادة، حتى صار “الخنوع” أدبًا شرعيًا يُتعبد به.هكذا تحوّلت الفتوى إلى وزارة دفاع عن النظام، لا عن الدين.
3. عبدالعزيز آل الشيخ (1999–2025): تقديس الحاكم ورفض النقد
في عهده، بلغت التبعية حدّ التأليه السياسي.
قال إن من ينتقد وليّ الأمر “ينازع الله في حكمه”، فجعل الحاكم ظلًّا إلهيًا لا يُسأل عمّا يفعل.
أصدر فتاوى ضد الإصلاح في الربيع العربي، مُحرّمًا كل مطالبة بالحقوق، وبذلك صارت العدالة “فتنة” والنقد “خروجًا”.
ومن هنا بدأ عصر الفتوى الأمنية التي تبرّر الاعتقال والتعذيب والمصادرة تحت شعار “حفظ الاستقرار”.
4. صالح الفوزان (منذ 2025): تجميل الانحراف الجديد
هو مفتٍ رمزيٌّ لعصر الانفتاح، أدَّى دور المُمكيّن الشرعي لرؤية وليّ العهد.
أجاز الموسيقى والترفيه بعدما كانت “رجسًا من عمل الشيطان”، مٌسوّغًا ذلك بـ “جلب المصلحة الاقتصادية”.
حرّم المعارضة السياسية المعاصرة، خاصة ضد سياسات التغيير، وعدّها “إفسادًا في الأرض”.
هكذا اكتمل النموذج: عالم السلطان يُغيّر دينه مع كل قرارٍ من القصر، يقدّس المُلك ويهين النصوص.
القسم الثاني: الفتوى حين تصبح سياسة
لم تعد الفتوى اجتهادًا، بل مذكرة داخلية من الديوان الملكي.
يسكت المفتي عما يراه حرامًا إذا أمر به الملك، ويحرم ما يغضبه ولو كان مباحًا بنصوص السماء.
الميزان هو السلطة لا الكتاب، والوجهة هي القصر لا القبلة.
ومن أشهر التناقضات الفاضحة:
فتوى الاستعانة بالكفار ثم إنكارها لاحقًا.تحريم المظاهرات داخل البلاد ثم الإذن بها خارجها ضد خصومٍ سياسيين.إباحة الترفيه بعد عقودٍ من تحريمه الشديد دون أي اجتهاد مستند إلى النص.كل هذه الانقلابات تفضح أن الفتوى تحوّلت إلى مكتب أزمات شرعية تابع للقصر.
القسم الثالث: جهيمان العتيبي وفتوى القتل في البيت الحرام
في محرم 1400هـ (نوفمبر 1979) اقتحم جهيمان بن محمد العتيبي وأصحابه المسجد الحرام، رافعين شعار تطهير الجزيرة من الفساد والطغيان.
أحرج الحدث النظام السعودي، لأن القتال في الحرم محرم بنصٍّ قطعي، فاستنجد آل سعود بالمؤسسة الدينية لتصنع لهم المخرج الشرعي.
أصدر ابن باز وكبار العلماء فتوى تقرر أن القتال في الحرم “جائزٌ لدفع الباغين”، ومن استباح الحرم بسلاحه فقد أباح دمه.
بهذه الورقة، أُعطيت القوات الفرنسية المكلفة بإنهاء الحصار الإذن الشرعي بإطلاق النار داخل أطهر بقاع الأرض.
تحولت الفتوى إلى غطاء ديني للمجزرة التي سقط فيها المئات، وبهذا الحدث ترسخ مفهوم “وليّ الأمر القاتل بحقّ الشرع” لأول مرة في تاريخ المملكة.
بعد الجريمة، تم تعميم تلك الفتوى لتجريم أي معارضةٍ فكرية أو دينية، فصارت القضية أصلًا لتحريم الاعتراض، ونقطة ولادة مدرسة “علماء السلطان الذين يقاتلون باسم الفقه”.
القسم الرابع: النصوص الشرعية التي تفضح علماء السلطان
ما فعله هؤلاء يدخل في باب الكتمان والتحريف الذي توعد الله به:
﴿فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ (البقرة: 79)
من كتب الفتوى خدمةً للملك باع دينه للهاثٍ على الثمن القليل.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ … أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾ (البقرة: 174)
كتموا فقه العدل ورفعوا شعار الطاعة العمياء، فأكلوا من نارهم ما يطبخونه في القصور.
وقال النبي ﷺ:
«أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون.»«من أعان ظالمًا سلطه الله عليه.»«من كتم علمًا ألجمه الله بلجامٍ من نار.»هي فتاوى سلطانٍ لا ربٍّ، تبيع الموقف وتحرف المنبر.
القسم الخامس: دار الإفتاء كجناحٍ من أجنحة القصر
ما يُعرف اليوم بـ “هيئة كبار العلماء” لم تعد سورًا لحماية الدين، بل جناحًا رسميًا لتلميع الظلم والطغيان.
قرارات القصر تُنزل كمرسوم، ثم تُرفع للفقيه ليُشرعنها.
من فتاوى الطاعة إلى فتاوى الانفتاح، كلها تمر عبر خط واحد: تلميع النظام.
أُلغِي فقه المعارضة، وأُعيد تعريف السمع والطاعة حتى صار الخضوع فريضةً دائمة.
عمى القلوب جعلهم يحفظون الدستور الملكي أكثر من حفظهم للقرآن، ويخافون من غضب الحاكم أكثر من خوفهم من الله.
الخاتمة
هؤلاء المفتون ليسوا حماة شريعة، بل موظفون في وزارة الولاء.
عمى قلوبهم جعلهم يحكمون بغير ما أنزل الله، ويكتمون الحق إذا تماسّ مع السياسة.
لقد تحولت الفتوى إلى طلقةٍ تُطلق باسم الدين، والدين إلى وسيلةٍ لتبرير الاستبداد.
يا أهل الجزيرة، إن عمى القلب أخطر من عمى البصر؛
فمن يبدّل دينه خدمةً للطغاة فقد خان الله ورسوله والأمة.
فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم، وويلٌ لهم مما زيّنوا للطغاة من باطلٍ على أنه شرعٌ مستنير.
الكاتب: حركة الحرية والتغيير
ارسال التعليق