هل تعلم
فضيحة تلميع صورة السلطات السعودية وشركاتها النفطية
في السنوات الأخيرة، برزت قضية علاقة شركات الإعلان العالمية بشركات النفط الكبرى، وفي مقدمتها شركة أرامكو المملوكة بأغلبها لعائلة ال سعود.
وكشفت وثائق نشرها موقع DeSmog الاستقصائي أنّ مجموعة الإعلانات العملاقة Interpublic Group (IPG) انتهكت تعهداتها المناخية عندما أشرفت على إعادة تلميع صورة أرامكو، رغم كونها أكبر منتج ومصدر للنفط في العالم.
في سبتمبر/أيلول 2022، أعلن الرئيس التنفيذي لـIPG فيليب كراكوسكي سياسة جديدة تمنع المشاركة في أي أعمال دعائية "تهدف إلى إطالة عمر الوقود الأحفوري". القرار جاء بعد رسالة وقّعها أكثر من 800 موظف داخل الشركة طالبوا فيها الإدارة بالتخلي عن عملاء ملوّثين. لكن، كما أوضح تحقيق DeSmog، لم يكن هذا الإعلان سوى ستار. فوكالات IPG في لندن صمّمت حملات لإقناع الحكومات وصانعي السياسات بأن أرامكو جزء من الحل المناخي، بينما كانت أرامكو تخطط في الواقع لاستثمار نحو 230 مليار دولار في مشاريع نفط وغاز جديدة حتى عام 2030، بحسب تقديرات شركة وود ماكنزي للاستشارات.
واحدة من أبرز هذه الحملات كانت حملة "Powered by How" التي أطلقت عام 2021، بالتعاون بين أرامكو وIPG ، الحملة شملت إعلانات تلفزيونية وبودكاست ورعايات لفعاليات رياضية دولية، وهدفت إلى إظهار الشركة كمؤسسة ابتكار عالمي. لكن الهدف الحقيقي، وفقًا لما أوردته بلومبيرغ، كان تمهيد الطريق لطرح أسهم جديد عام 2024 جمع ما يقارب 12.35 مليار دولار لدعم "رؤية 2030" التي يقودها ولي العهد محمد بن سلمان.
إلا أنّ الأرقام تكشف تناقضًا كبيرًا: بين 2021 و2023 أنفقت أرامكو أكثر من 112 مليار دولار على مشاريع النفط والغاز، مقابل نحو 216 مليون دولار فقط على أبحاث احتجاز الكربون والهيدروجين. في المقابل، خصصت ميزانية إعلانية تقدَّر بـ 200 مليون دولار لوكالة IPG وحدها. وبحسب موقع DeSmog، فإن هذا يوضح أن الحملة لم تكن استثمارًا في المستقبل الأخضر، بل كانت مجرد أداة غسيل أخضر لشراء الوقت وإطالة عمر النفط السعودي.
سياسات جوفاء وضغوط داخلية وخارجية:
رغم ادعاءات الشفافية، استمرت IPG في عقد صفقات جديدة مع شركات الوقود الأحفوري. ففي أبريل/نيسان 2024، وقّعت عقدًا مع قطر للطاقة، التي أعلنت خططًا لزيادة إنتاج الغاز الطبيعي المسال بنسبة 84% بحلول 2031، في تناقض صريح مع أهداف اتفاق باريس للمناخ. أحد الموظفين السابقين في IPG صرّح لموقع DeSmog قائلاً: "الأمر أقل إزعاجًا لو لم يختبئوا خلف قيم الاستدامة. لكنه غسيل أخضر واضح وصريح".
حتى داخل الشركة نفسها، وُضعت بعض عقود النفط والغاز ضمن قائمة "العملاء الآثمين"، إلى جانب صناعات التبغ والقمار، كما جاء في عروض العمل الداخلية التي حصلت عليها منصة Clean Creatives. لكن الإدارة كانت تبرر استمرارها في هذه العقود بالقول إنها "تحتاج إلى البقاء في الغرفة للتأثير من الداخل".
هذا التناقض فجّر غضبًا متزايدًا، حيث وقّع أكثر من 800 موظف على رسالة تطالب بخطة انتقال سريعة بعيدًا عن عملاء الوقود الأحفوري، غير أن الاستجابة بقيت ضبابية. وبحسب وكالة "بلومبيرغ"، فقد اعتبر موظفون أن سياسة الشركة الجديدة كانت "مجرّد حملة علاقات عامة".
في السياق الدولي، ازدادت الضغوط على وكالات الإعلان. ففي 2023، دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش علنًا شركات التسويق والدعاية إلى التخلّي عن عملاء النفط والغاز، واصفًا أولئك الذين يواصلون الترويج لهم بأنهم "رجال مجانين يغذّون الجنون". كما حظرت مدن أوروبية مثل لاهاي وإدنبره إعلانات الوقود الأحفوري في الأماكن العامة، فيما ناقش البرلمان البريطاني لأول مرة فرض حظر مشابه على غرار حظر إعلانات التبغ.
وبحسب مركز أبحاث InfluenceMap، أنفقت خمس شركات نفط كبرى نحو 750 مليون دولار عام 2022 على حملات تهدف لإبراز استثماراتها "الخضراء"، بينما لم تذهب سوى 12% من نفقاتها الرأسمالية فعلًا إلى الطاقة المتجددة. هذا التفاوت يعكس، وفقًا للتقرير، أن غالبية هذه الحملات صُممت أساسًا لتضليل الجمهور والمستثمرين.
السعودية وصناعة السمعة:
تتقاطع حملات IPG مع أرامكو مع مشروع أوسع يتبناه محمد بن سلمان لتحسين صورة "السعودية" بعد جريمة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي عام 2018، وما تلاها من انتقادات دولية حادة. وبحسب صحيفة "واشنطن بوست"، فقد لجأت السلطات السعودية إلى إنفاق مليارات الدولارات على رعاية الفعاليات الرياضية والثقافية، إضافة إلى الحملات الإعلامية، لتلميع صورة الحكم وإبعاد الأنظار عن ملفات حقوق الإنسان.
يقول عبد الله العودة، مدير الأبحاث في مركز الديمقراطية للشرق الأوسط بواشنطن، إن ما يحدث هو "مشاركة في كذبة بنيوية، إذ تجعل الحكومة السعودية تشتري سمعة جيدة بدلًا من الالتزام بحقوق الإنسان أو البيئة".
ويرى العودة أن شركات الإعلان تتحمل مسؤولية أخلاقية في مشاركتها بهذه العملية، لأنها توفر الغطاء الإعلامي لواحدة من أكثر الشركات الملوثة في العالم.
وبالفعل، نجحت هذه الإستراتيجية في تحقيق هدفها المالي. فبعد نحو عامين ونصف من تشغيل حملة "Powered by How"، حققت أرامكو طرحها الثاني في يونيو/حزيران 2024، وسط إقبال واسع من المستثمرين الأجانب. وبحسب وكالة فرانس برس، ارتفعت نسبة المستثمرين الأجانب في الطرح إلى 58% مقارنة بـ23% فقط عام 2019.
غير أنّ هذا النجاح المالي لم يخفِ حقيقة جوهرية: أن أرامكو تظل أكبر مصدر لانبعاثات الكربون في العالم، وأن كل هذه الحملات الدعائية لا تهدف إلا إلى شراء الوقت وإطالة عمر اقتصاد النفط السعودي. وكما وصفها معهد Quincy Institute الأميركي: "إنها عملية تلميع أورويلية، في الشكل خضراء، وفي الجوهر سوداء".
إن تجربة أرامكو مع IPG تكشف كيف يمكن للشركات الكبرى أن تستخدم مؤسسات الإعلان والعلاقات العامة لتمرير رسائل مضللة، بينما تستمر في توسيع استثماراتها الملوثة. ووفقًا لموقع DeSmog، فإن هذه السياسات لا تقتصر على "السعودية" وحدها، بل هي جزء من ظاهرة عالمية تسعى فيها شركات النفط إلى حماية أرباحها على حساب مستقبل الكوكب.
باع "أرامكو" طويل في التعدّي على البيئة والمناخ، يتجاوز حدود مشاريعها داخل "السعودية"، ففي فبراير/شباط 2025، وجه عدد من المقررين الخاصين التابعين للأمم المتحدة رسالة إلى النظام السعودي، عبّروا فيها عن قلقهم من الانتهاكات لحقوق الإنسان المرتبطة بمشروع مصفاة ومجمع بتروكيماويات في قرية بارسو بمنطقة راتناجيري في ولاية ماهاراشترا الهندية.
المشروع المشترك بين شركة أرامكو السعودية، شركة أبوظبي الوطنية للنفط (أدنوك)، وثلاث شركات هندية مملوكة للدولة، ينفذ وفقًا لمذكرة تفاهم موقعة عام 2018، حيث تمتلك أرامكو وأدنوك حصة مجمعة تصل إلى 50% من المشروع، في حين تمتلك الشركات الهندية النسبة المتبقية.
وأوضح المقررون أن هذا المشروع أثار مخاوف بيئية واجتماعية كبيرة بين السكان المحليين والنشطاء، خاصة مع وقوع الموقع في منطقة غنية بيئيًا بالقرب من جبال الغات الغربية، وهي موطن لأنواع نباتية وحيوانية فريدة. كما أبدى المزارعون قلقهم من أن التلوث الناتج عن المشروع قد يضر بمحاصيلهم من المانجو والكاجو، التي تشكل مصدر رزق رئيسي في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، يحتوي الموقع على نقوش صخرية قديمة تُعد جزءًا من التراث الثقافي، ما يثير المخاوف من احتمال تدميرها.
إلى جانب ذلك، فقد وجّه خبراء في الأمم المتحدة رسالة إلى كل من صندوق الاستثمارات العامة و”الحكومة السعودية” في يونيو 2023، أوضحت أن الأنشطة التجارية لشركة أرامكو تتعارض مع الأهداف والالتزامات بموجب اتفاق باريس بشأن تغير المناخ بما في ذلك من خلال النفط الخام الذي تحتفظ به، والإنتاج والتنقيب عن المزيد من احتياطيات النفط والغاز والتوسع في الوقود الأحفوري الغاز وتحريف المعلومات.
وأكدت أن الأعمال التجارية تلعب دوراً مركزياً في تغير المناخ، والوقود الأحفوري مسؤول عن أكثر من 75% من الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري على مستوى العالم.
تُصَنّف أرامكو كأكبر مصدر لانبعاثات الغازات الدفيئة، وهي مسؤولة عن 61.143 جيجا طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون الأعمال التجارية تلعب دوراً مركزياً في تغير المناخ، والوقود الأحفوري مسؤول عن أكثر من 75% من الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري على مستوى العالم. تصنف أرامكو كأكبر مصدر لانبعاثات الغازات الدفيئة، وهي مسؤولة عن 61.143 جيجا طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون.
ارسال التعليق