
مائة عام من العزلة... فائض التاريخ العربي
بقلم: سمر يزبك...
ليست الخيبة في العالم العربي حدثاً عابراً، بقدر ما تبدو خيطاً طويلاً متّصلاً ينساب عبر القرون، يتلوّن بأسماء السلاطين والأنظمة والأحزاب، لكنّه يظلّ ثابتاً في جوهره. أجيال متعاقبة تستيقظ على الوعد بالنهضة، وتنام على وقع الانكسار، وكأنّ التاريخ لم يُصَغ في هيئة خطّ مفتوح، بل في هيئة دائرة مغلقة تعيد إنتاج ذاتها. هذه الصورة المأساوية تستدعي إلى الذاكرة رواية "مائة عام من العزلة"، إذ تتحوّل سيرة عائلة بوينديا إلى استعارة للانحباس في قدرٍ أبدي، تتكرّر فيه الأسماء والأخطاء والخيبات، حتى يبدو الزمن معطوباً. وإذا كانت ماكوندو، البلدة المعزولة، تجسّد عزلة أسرة وبلد، فإن العالم العربي بأسره يعيش عزلةً أشمل: عزلة عن المستقبل، وعزلة عن نفسه أيضاً. من هنا تنفتح المقارنة بين النصّ الروائي والواقع العربي، بوصفهما تجربتَين مشدودتَين إلى التاريخ، لا باعتباره ذاكرة خصبة، بل باعتباره لعنةً مستمرّة. فما يميز كلّاً من ماكوندو والعالم العربي ليس غياب التاريخ، بل فائضه؛ تاريخ مثقل بالدم والهزائم والوعود المنكوبة، لا يتحرّك إلى الأمام بقدر ما يعيد نسخ ذاته في صورة حلقات متكرّرة. وهنا يتبدّى المحور الأول للمقارنة: التاريخ دائرةً مغلقةً، فلا يتعاقب الزمن بوصفه تقدّماً، فتجد الأجيال الجديدة نفسها تعيش خيبات الأجداد وكأنها مكتوبة سلفاً في الأسماء والذاكرة.
لم يكن تكرار الأسماء داخل أسرة بوينديا مجرّد تفصيل روائي، بل كان إعلان مصيدة قدرية؛ يولد الأبناء محمّلين بظلال أسلافهم، ويعيدون أخطاءهم كما لو أنّ الزمن لا يعرف سوى إعادة إنتاج ذاته. فالتاريخ هناك لا يتسع ليشكّل خطاً مفتوحاً على احتمالات جديدة، بل ينكمش في دائرة تنتهي دوماً حيث بدأت. بهذا المعنى تماماً يمكن النظر إلى التجربة العربية الحديثة بوصفها تكراراً مأساوياً لتلك الدائرة. منذ سقوط مشروع النهضة في نهايات القرن التاسع عشر، مروراً بنكبة فلسطين ونكسة 1967، وصولاً إلى موجة الثورات والانتفاضات في العقد الماضي، ظلّت المنطقة تدور في فلك خيبات متعاقبة، تتبدّل فيها الوجوه والشعارات، لكن النتيجة النهائية واحدة: إعادة إنتاج الانسداد. وكأننا أمام تاريخ لا يعيد صياغة ذاته بوعي، بل يعيد تمثيل أخطائه بآلية شبه قدرية. إنها ما سمّاها عبد الله العروي "القطيعة المؤسّسية". فكل حدث كبير في العالم العربي (ثورة، انقلاب، حرب) لا يُفضي إلى تأسيس عقد اجتماعي جديد أو بنية سياسية مستقرّة، بقدر ما يترك وراءه فراغاً يملأه الاستبداد مرّة أخرى. تماماً كما ظلّت ماكوندو عاجزةً عن تجاوز أساطيرها المُؤسِّسة. كل جيل يحمل على كتفيه أثقال الهزائم السابقة، حتى يكاد الفشل يبدو سلالةً عائليةً تنتقل كما تنتقل الملامح الجسدية.
تبدو الذاكرة في الرواية لعنة تُنهك شخصياتها. بعضهم عاش في دوامة اجترار الماضي حتى أصابه الجنون، وبعضهم الآخر لجأ إلى النسيان القسري آليةً للبقاء. وهكذا يتحوّل النسيان من فعل ضعف إلى استراتيجية بقاء، وإن كان ثمنها فقدان المشروع الجمعي للمستقبل. وهذه الثنائية بين الذاكرة والإنهاك تُنتج ثقافةً سياسيةً مأزومةً، ذاكرة متخمة تمنع تخيّل الجديد، ونسيان انتقائي يقطع مع الماضي من دون أن يؤسّس بديلاً. والنتيجة أن المجتمعات، مثل شخصيات ماركيز، تبقى أسيرةَ توتّر دائم بين التذكّر الموجع والهروب العقيم، عاجزة عن تحويل الذاكرة طاقةً للتجاوز. هذه العبثية تنعكس بوضوح في المشهد العربي.
الخيبة أصبحت بنية تتغذّى من ذاتها وتعيد إنتاج نفسها جيلاً بعد جيل. في "مائة عام من العزلة"، انتهت الحكاية بنبوءة عن الفناء المحتوم لعائلة بوينديا، وكأن اللعنة لم تترك لها مهرباً سوى الزوال. أمّا في الحالة العربية، فإن النبوءة لم تُكتب بعد، لكنّها تتبدّى في صورة حاضرٍ معلّق بين ذاكرة مثقلة بالماضي وعجزٍ عن رسم أفق للمستقبل. وإذا كانت عزلة ماكوندو قد انهارت مع سقوطها في دوامة الأساطير والتكرار، فإن المنطقة العربية تواجه خطراً مشابهاً: عزلة عن التاريخ العالمي، وتكرار للخيبات كأنّها قدر أبدي. الفرق الوحيد أن الرواية أغلقت قوسها بنهاية واضحة، بينما الواقع العربي ما يزال مفتوحاً على احتمالات لم تُحسم بعد.
ارسال التعليق