حدث وتحليل
“مملكة الوهم: كيف يصنع الإعلام السعودي ملكًا من أكاذيب رقمية”
[ادارة الموقع]
الرياض –
في زمن تتقاطع فيه الدعاية مع السلطة، تكشف الحملات الإعلامية السعودية عن نمطٍ ممنهج من التضليل والتزييف يخدم مشروع ولي العهد محمد بن سلمان في إحكام السيطرة على الدولة ومقدراتها.
فمن تمجيدٍ شخصي إلى إنجازاتٍ وهمية، تُصاغ كل رواية بحروفٍ ذهبية تخفي وراءها جبلًا من الأكاذيب والعمليات الدعائية المصطنعة.
الخداع الإعلامي المستتر تحت شعار الإنجاز
بدأت الحكاية بعد وقف إطلاق النار في غزة مطلع أكتوبر 2025، حين غصت منصة “إكس” (تويتر سابقًا) بتغريدات سعودية تنسب “الإنجاز” إلى محمد بن سلمان، مصوّرة إياه كقائدٍ ضاغط على الغرب لإنهاء الحرب.
غير أن الوقائع الرسمية فضحت السردية المزعومة؛ فالوساطة الحقيقية كانت بيد قطر ومصر والولايات المتحدة، بينما اقتصر الدور السعودي على الترحيب فقط، دون أي مساهمة فعلية.
مع ذلك، روّجت حسابات سعودية أن ولي العهد “صانع السلام العربي” و”بطل غزة”، في محاولة لإعادة رسم صورته المتشققة منذ فضيحة مقتل جمال خاشقجي عام 2018، حين فشلت ماكينة التلميع الرسمية في تلميع جريمة دولية.
تحليل السردية:
تعتمد هذه الحملة على مبدأ “التثبيت الإعلامي” (Media Saturation)، حيث يتم تكرار رسالة محددة عبر عدد كبير من الحسابات المتزامنة، بغض النظر عن صحتها الواقعية.
يتم استغلال اللحظات الحساسة إقليمياً، مثل الصراعات العسكرية، لتسجيل نقاط سياسية زائفة لصالح ولي العهد.
الذباب الإلكتروني: جيش الدعارة الرقمية للرأي العام
منذ صعود محمد بن سلمان في 2017، تأسس ما بات يُعرف بـ“الذباب الإلكتروني”، شبكة ضخمة من الحسابات الوهمية والمدفوعة تُدار من غرف مظلمة في الرياض وجدة وأبوظبي.
هدفها هو تمجيد ولي العهد وتشويه خصومه، واستهداف كل صوت حر أو ناقد.
تتبع الدراسات الرقمية أن آلاف الحسابات المرتبطة بجهات سعودية رسمية أعادت نشاطها أثناء حرب غزة لنشر تغريدات متكررة تحمل نفس النص أو الصورة، في نمط متناسق يدل على تنظيمٍ مركزي.
ليس ذلك مجرد تفاعل شعبي؛ بل تعبئة إلكترونية محسوبة تنفذ أوامر دعائية صادرة من أجهزة أمنية وإعلامية.
هيكلة جيش التضليل الرقمي:
– الحسابات الآلية (Bots): برامج حاسوبية تنشر وتُعيد تغريد المحتوى بشكل آلي ومُبرمج، وغالباً ما تكون خوارزمياتها مُصممة لتجاوز مرشحات كشف المحتوى المكرر.
– الحسابات الوهمية (Sockpuppets): حسابات يتم إنشاؤها بهويات مزيفة، غالباً ما تستغل صوراً مسروقة أو مُولّدة بالذكاء الاصطناعي، وتُدار من قبل مشغلين بشريين لدفع الروايات المعقدة.
– المؤثرون المأجورون (Paid Trolls): شخصيات ذات متابعة حقيقية أو مُضخمة اصطناعياً، يتم دفع مبالغ كبيرة لهم لتبني وتبرير الروايات الرسمية بشكل يبدو أكثر عفوية ومصداقية.
الآلية التنظيمية:
يُعتقد أن هذه العمليات تتم عبر منصات متخصصة تتيح للمشغلين إدارة مئات الحسابات بالتزامن.
يتطلب التنسيق الفعال مثل هذه الحملات بنية تحتية تقنية عالية الكفاءة، مما يشير إلى تورط مباشر من مراكز القرار الاستخباراتي والأمني.
أكاذيب مُمنهجة لخدمة هدف واحد: توريث العرش بالقوة
وراء هذا الضخ، يكمن هدف سياسي بالغ الأهمية.
وفق قوانين المملكة، الخليفة الشرعي للملك هو الأخ الأكبر الحي، لا الابن.
لكن محمد بن سلمان، الذي يخشى فقدان فرصته بالجلوس على العرش بعد والده، أطلق حملة تطهير داخل القصر، شملت اعتقال أبناء عمومه ومصادرة أموالهم تحت ذرائع “فساد” اخترعتها آلته الإعلامية.
تلك الحملات لم تكن سوى عملية قمع ممنهج يواكبها خطاب تضليل يومي يصور الرجل كـ“مصلح” و“منقذ”، بينما تغيب الحقيقة خلف جدار من الحسابات الآلية ووسائل إعلامٍ تعمل بتكليف مباشر من البلاط.
مقارنة بين الدعاية والقانون الوراثي:
الهدف السياسي: السردية الدعائية المروجة: المبدأ الشرعي التقليدي:
تبرير الانتقال القسري للسلطة. "محمد بن سلمان “الرؤيوي” و"القائد الشاب" خلافة الأخ الأكبر (مبدأ السن)
تهميش باقي أفراد العائلة المالكة الإصلاح الجذري وتفكيك “القديم” التقاليد المؤسسية للحكم
خلق حالة من الخوف من البديل “الاستقرار مرهون بوجود ولي العهد” الحفاظ على استقرار الدولة
إن استخدام “مكافحة الفساد” كغطاء لتصفية المنافسين السياسيين داخل الأسرة الحاكمة هو تكتيك قديم، لكن تغليفه بأغطية إعلامية رقمية يجعله أسرع وأكثر قبولاً ظاهرياً في البيئة الرقمية السريعة.
من غزة إلى خاشقجي: خط واحد من الزيف والظلام
سواء في قضية فلسطين أو في مقتل الصحفي جمال خاشقجي، تُظهر الوقائع نمطًا واحدًا:
الأكاذيب بدل الاعتراف، والتضليل بدل الحوار.
في غزة، نُسبت إنجازات وهمية لم تحدث، وفي خاشقجي، نُشرت آلاف التغريدات لتبرير وتبرئة ولي العهد.
إنها ماكينة الدعاية نفسها تغيّر فقط الموضوع والمشهد حسب الحاجة.
التحليل المقارن لحملات التضليل:
1. قضية خاشقجي (2018):
أُطلقت حملات مكثفة، يُقدر عدد التغريدات المتعلقة بها بمئات الآلاف خلال الأسابيع الأولى، هدفها:
نفي معرفة ولي العهد المباشرة بالجريمة.اتهام جماعات متطرفة أو جهات إيرانية أو قطرية بتدبير الأمر.التركيز على “الإصلاحات” الاقتصادية والاجتماعية كمناقض للتهمة الجنائية.
2. أزمة غزة (أكتوبر 2025):
تم تحويل الانتباه الداخلي والخارجي عبر:
نشر فيديوهات مُفبركة تُظهر “دعمًا” لوجستياً غير موجود لقطاع غزة.التأكيد على دور السعودية كـ"الضامن الوحيد" لإعادة الإعمار المستقبلي.شن هجمات إلكترونية منظمة ضد أي حساب ينتقد الأداء السعودي الفعلي أو يشيد بدور دول أخرى.الذباب الإلكتروني لا يدافع عن الوطن ولا عن الدين؛ بل عن رجلٍ واحد، وعن مشروعٍ يحتكر الدولة والمال والمصير. إنه إعلام غُسل ضمير، يُبرمج الوهم، ويخون الحقيقة خدمةً للسلطة.
أثر التضليل على الوعي العربي
تُظهر تقارير المنصات الكبرى أن حملات التضليل السعودية كانت بين الأكثر تنظيمًا في العالم العربي، وأدت إلى حجب آلاف الحقائق وإعطاء صورة زائفة عن الواقع. ملايين التفاعلات تمولها شركات علاقات عامة، بعضها في الإمارات والولايات المتحدة، لترويج صورة ولي العهد “المصلح العالمي”.
التأثيرات الكمية: صورة تقريبية لحجم الدعاية
تشير تقديرات أولية من مراكز مراقبة المحتوى الرقمي إلى أن النشاط الدعائي السعودي عبر المنصات الإلكترونية ارتفع بشكل ملحوظ بين عامي 2022 و2025:
في عام 2022، خلال الحملات التي رافقت ما سُمّي بـ"الإصلاحات الاجتماعية"، كانت نسبة التكرار في التغريدات تحت الوسوم المؤيدة لمحمد بن سلمان تقارب 65%، أي أن أكثر من نصف المحتوى المتداول كان إعادة نشر أو نسخ متكررة لنفس الرسائل السياسية، بتنسيق واضح بين الحسابات المؤيدة.بلغت ميزانية تشغيل هذه الحملات نحو 10 إلى 15 مليون دولار شهريًا.
في عام 2025، أثناء أزمة غزة، ارتفع النشاط إلى ذروته؛ حيث بلغت نسبة التكرار حوالي 80%، أي أن المحتوى المروج كان شبه موحد ومنتجًا في غرف رقمية مغلقة.الميزانية قُدّرت بما بين 15 و25 مليون دولار شهريًا نظرًا لحساسية الحدث السياسي والديني، فيما وصف المراقبون مستوى تنسيق الحسابات بأنه محكم ومنهجي للغاية.
لكن هذا الزيف يترك أثرًا خطيرًا على الوعي الجمعي العربي؛ إذ يُربّي جيلاً يرى الأكاذيب بطولات، ويعتبر القمع إصلاحًا، ويغفل أن جوهر القوة يأتي من العدل لا من الذباب.
النظرية الاجتماعية للتلقي:
في غياب وسائل إعلام مستقلة وموثوقة داخل المملكة، يصبح الذباب الإلكتروني المصدر شبه الوحيد للمعلومات الموجهة نحو الخارج، مما يُنشئ “فقاعات تصفية” (Filter Bubbles) حيث لا يصل للمتلقي إلا الرواية التي تريدها السلطة.
الخاتمة: الكذب كاستراتيجية حكم
تكشف ظاهرة الذباب الإلكتروني أن السعودية اليوم لا تكتفي ببث الدعاية، بل تبني نموذجًا جديدًا للسلطة يقوم على الكذب المبرمج كأداة إدارة شعبية، فكل تغريدة تمجيد ليست عفوية، بل جزء من خطة شاملة لتزييف التاريخ، وتمهيد طريقٍ واحد نحو العرش.
إن حجم الموارد البشرية والمالية والتقنية الموظفة في هذه العملية يضعها في مصاف العمليات الاستخباراتية الكبرى، حيث يتم “استثمار” الرأي العام كأصل استراتيجي للدولة.
وفي ظل هذا الغبار الرقمي، يبقى السؤال الأهم:
هل يستطيع الشعب السعودي والعربي أن يرى الحقيقة وسط هذا الطوفان من الأكاذيب، أم أن الذباب نجح في خنق الضوء، وجعل الكذب ديانة دولة؟
الكاتب: قسم الدراسات/ حركة الحرية والتغيير
ارسال التعليق