اقتصاد
بيانات تكشف عن تراجع ملحوظ في تمويل مشروع نيوم
في الوقت الذي تتجه فيه أنظار كبار المستثمرين العالميين إلى الرياض مع انعقاد قمة مبادرة مستقبل الاستثمار 2025، يبدو أن "السعودية" بصدد إعادة توجيه بوصلتها الاقتصادية بشكل واضح بعيدًا عن مشروع نيوم الذي كان، حتى وقت قريب، حجر الزاوية في رؤية محمد بن سلمان. التقارير الأخيرة التي استندت إلى مصادر مطلعة كشفت أن السلطة باتت تعطي الأولوية اليوم لمجالات مثل الذكاء الاصطناعي والألعاب والتصنيع عالي التقنية، في محاولة لإعادة ضبط المشهد بعد أن تحولت نيوم من رمز للتطلعات إلى عبء ثقيل على السيولة والقطاع المصرفي المحلي.
تراجع حضور نيوم لم يعد مجرد انطباع بل واقع مالي وسياسي ملموس. فالعقود الجديدة المرتبطة بالمشروع بدأت تتناقص بصورة ملحوظة، ولم يُذكر المشروع في بيان ما قبل ميزانية 2026 للمرة الأولى منذ ثلاث سنوات. كما تباطأت الأعمال في "ذا لاين" وأصيبت مشاريع فرعية مثل جزيرة سندالة ومنتجع تروينا بانتكاسات متكررة. هذه المؤشرات تأتي في وقت بات فيه الإنفاق السابق على نيوم عامل ضغط مباشر على قدرة "السعودية" على تمويل استثمارات خارجية أو دعم صناديق التحوط العالمية، فضلًا عن أنه استنزف السيولة المحلية، حيث تشير تقارير مصرفيين إلى بقاء حالة الشح مستمرة حتى مع أي تباطؤ إضافي.
البيانات التي حصلت عليها وكالة "بلومبيرغ" تظهر أن إجمالي ما مُنح من عقود بناء في كافة المشاريع الضخمة خلال الأشهر التسعة الأولى من 2025 لم يتجاوز 8 مليارات دولار، بينما لم تحصل نيوم سوى على 20 مليون دولار فقط — رقم شبه رمزي مقارنة بما كان يُرصد للمشروع قبل عامين. وبينما بلغ إجمالي العقود الضخمة منذ 2019 نحو 110 مليارات دولار، إلا أن الذروة كانت في 2023 ثم بدأ المنح يتراجع بشكل حاد منذ ذلك الحين، في دلالة على التحول الاستراتيجي الجاري.
ورأت الوكالة الأميركية أن الرياض تتجه اليوم نحو خيارات أكثر "قابلية للتسويق السياسي" وأقل مجازفة ماليًا. هناك توجه لإعطاء الأولوية لمشاريع إسكان ومكاتب جديدة في العاصمة، بالتوازي مع تحضيرات مبكرة لإنفاق مليارات على معرض إكسبو 2030. كما يُرتقب أن يكشف صندوق الاستثمارات العامة قريبًا عن استراتيجيته لما بعد 2026، وهي لحظة يُتوقع أن تُحسم فيها ملامح مصير نيوم رسميًا. وفي خلفية هذا المشهد، تراجعٌ ملحوظ في نمو إيرادات نيوم ما دفع عددًا من الاستشاريين إلى سحب موظفيهم من المشروع، فيما تعمل بعض الشركات الإنشائية على "الحد الأدنى التقني" بانتظار ما ستقرره القيادة السعودية.
هذا التباطؤ ليس بلا إيجابية؛ إذ يُعتقد أنه سيساهم جزئيًا في تخفيف ضغوط السيولة، لكنه لن يحل الأزمة بشكل جذري نظرًا لاستمرار حاجة بقية المشاريع الحكومية -مثل بناء مساكن بأسعار معقولة " إلى قروض ضخمة. في المقابل، تبدو الحكومة مستعدة للانعطاف بوضوح نحو قطاعات تلقى ترحيبًا أكبر دوليًا وتفتح الباب لشراكات رفيعة المستوى، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي والتقنيات السيادية. الرسائل الصادرة مؤخرًا من مستويات عليا توحي بأن حقبة "كل شيء من أجل نيوم" تقترب من نهايتها، أو على الأقل من تحجيمها بعد أن اصطدمت بمحدودية الواقع المالي وقدرات التنفيذ الفعلية للاقتصاد السعودي.
هذا وشهد أكثر من مشروع في المدينة انتكاسة واضحة تنبئ بمشاكل تمويلية كبيرة، أبرزها كان سحب مشروع سندالة من "نيوم" وتحويله إلى شركة تميلية أخرى: فبعد فترة وجيزة من تقرير نشرته وكالة “بلومبيرغ” عن تعثُّر انطلاق العمل في جزيرة “سندالة” على الرغم من الحفل الإفتتاحي الضخم الذي أُقيم له، نشرت صحيفة فاينانشيال تايمزفيما بعد تقريرًا يكشف عن تحولات لافتة في مشاريع “السعودية” السياحية الضخمة المرتبطة برؤية 2030، حيث أُعلن عن نقل إدارة مشروع جزيرة سندالة في البحر الأحمر بعيدًا عن إدارة مشروع “نيوم” الصحراوي. ويأتي ذلك في وقت يتعرض فيه المشروع الذي تبلغ تكلفته المعلنة أكثر من 500 مليار دولار لسلسلة من النكسات والإعادة الهيكلية بعد تعثرات متكررة.
في السياق ذاته، يثير استمرار تعثر “نيوم” وما يتفرع عنها من مشاريع مثل “ذا لاين” و”أوكساجون” و”تروينا” تساؤلات جوهرية حول قدرة النظام على تحويل شعاراته إلى إنجازات ملموسة. فبينما يُضخّم الخطاب الرسمي من الإنجازات المستقبلية، تكشف الوقائع التي تنقلها الصحف الدولية، مثل فاينانشيال تايمز، عن صورة مغايرة تتسم بالفوضى الإدارية والتحديات المالية.
ارسال التعليق